أزعم لنفسي معرفة الإخوان المسلمين جيدا؛ فقد عملت معهم في بداية حياتي، وفي تنظيمهم الداخلي بالذات، وقرأت أدبياتهم جيدا، وتتبعت مسيرة حركتهم وصداماتهم السياسية مع الأنظمة، كما حصل في سوريا مع نظام حافظ الأسد الانقلابي، وأعرف قياداتهم شخصيا في سوريا (مثل سعيد الحوى ومروان حديد) وبعضا من المصريين (الملط ـ زينب الغزالي ـ عبد الحليم أبو شقة) ، لذا أكتب عنهم بدراية ومعرفة، ومن هذه التجربة لهم وللحركات الإسلامية الأخرى وأهمها (حزب التحرير) والسلفية (شيخهم ناصر الدين الألباني) والمتصوفة، وحركات المشايخ (عبد الوهاب دبس وزيت ـ سعيد البرهاني ـ صالح فرفورـ وإمام جامع القطط الشيخ عبد الرزاق الحمي الذي تعلمت على يديه علم الحديث) كما كان الحال مع الشيخ الرفاعي رحمه الله (مدرسة مسجد الرفاعي) ومنهم أيضا (كفتارو) و(البوطي) الذين آثروا الانضمام إلى وعاظ السلاطين، والدفاع عن الطغاة في وجه الشعوب، واعتماد أسلوب الفقه التقليدي أن الحاكم يطاع ولو ضرب ظهور الناس وأخذ أموالهم.
وتبدأ قصة جماعة الإخوان المسلمين تأسيسا عام 1928 م، على يد شاب لم يتجاوز العشرين من العمر، من مواليد المحمودية، عام 1907 وتم الاحتفال في الأردن في عام 2007م بمناسبة مرور مائة عام على مولده، ومن يقرأ كتاب (مذكرات الدعوة والداعية)، وهو كتاب خطه البنا بيده يصل إلى تفصيلات مذهلة، في تلافيف دماغ هذا الرجل العجيب الكارزمائي، الذي أطلق اسمه على شارع في طهران، في الوقت الذي تمت ملاحقته وجماعته في غاية الشراسة في البلد الذي نشأ فيه، وتصفيته جسديا بإطلاق الرصاص عليه في وضح النهار، وشنق جماعته في طوابير على وجبات، مثل دفعة عبد القادر عودة عام 1954م ثم في الستينات مجموعة سيد قطب.
وأهم ما ميز الحركة تنظيم محكم، يذكر بحركات الفاشيين والنازيين، التي تزامنت معها في الظهور، وكان البنا بالتأكيد يلاحظها ويستفيد منها، وأهم ما تميز به البنا تطوره الفكري، ولو عاش للثمانينات لكُتب لمصر والحركة مصير مختلف.
كان البنا يستفيد من جو التاريخ فيرمم حركته، وكان يمشط القطر المصري من أقصاه لأقصاه، وهو يجند الأتباع وينظم الجماهير، ولو كان جسم الحركة وقلبها له، ودماغها لأخيه المجدد الأصغر منه (جمال البنا) لكان للحركة شأن، ولغادرت كهوف التقليد إلى العصر، ولكنها مهمة صعبة تقترب من الاستحالة.. في ثقافة مصابة بالكساح منذ أيام كافور الأخشيدي..
وفي لقائي مع (مالك بن نبي) المفكر الجزائري في دمشق قبل موته بقليل، حكى لي رغبته في لقاء الرجل، أي البنا، ولكن حال الموت بين لقاء الرجلين، ولربما تلقحت الحركة بفكر مالك فتغير مسارها لا ندري؟؟
ووصف بن نبي زعيم الحركة أنه:
"إذا كان قد أتيح لذلك الزعيم أن يؤثر تأثيرا عميقا في سامعيه، فما ذلك إلا لأنه لم يكن يفسر القرآن، بل كان يوحيه إلى الضمائر التي يزلزل كيانها، فالقرآن لم يكن على شفتيه وثيقة باردة، أو قانونا محررا، بل كان يتفجر كلاما حيا، وضوء آخذا يتنزل من السماء فيضيء ويهدي، ومنبعا للطاقة يكهرب إرادة الجموع.
لم يكن الرجل يتحدث عن ذات الله، كما صورها علم الكلام، أي عن الله العقلي، بل كان يتحدث عن الله الفعّال لما يريد، المتجلي على عباده بالرحمة والقهر، تماما كما كان المسمون الأوائل يستشعرون حضوره فيما بينهم، ونفحته المادية في بدر وحنين؛ فالحقيقة القرآنية تتجلى بأثرها المباشر على الضمير، وبتأثيرها في الأناسي والأشياء" اهـ
هذه الكلام جاء في كتاب (وجهة العالم الإسلامي) لمالك بن نبي في معرض حديثه عن فوضى العالم الإسلامي.
وهذا الكلام يذكر بكلمات (رودولف هيس) وهو يصف خطب هتلر التي كان يسحر بها الجمهور" وكأنها ميلوديا خالدة تنزل على الضمائر من الملك العلوي. فترفع الناس وتحلق بهم إلى أعلى عليين، ثم لا تلبث أن تهوي بهم في قيعان الجحيم..؟"
وحسن البنا مؤسس جماعة (الإخوان المسلمين) كان بناء بحق، منظما للجماهير، كتلة متدفقة من الحيوية والنشاط والجاذبية، لا تكف عن كسب الأتباع، والتمدد والاتساع في كل العالم.
وأتباعه أصبحوا شجرة باسقة من حافة الأطلنطي إلى المحيط الهندي، بتعبير مجلة (در شبيجل) الألمانية في عددها 27 في مطلع يوليو 2007م، في دراسة انكب عليها رهط من الباحثين، لرصد هذه الظاهرة الاسلاموية؟
وهو دليل على الشأو الذي بلغته الجماعة، فقد احتلت 17 مقعدا في البرلمان الأردني من أصل 110، ومع أنها محظورة في مصر، فقد بلغ اقتحامها للسياسة أن قفزت بمرشحيها في مجلس الشعب من 15 إلى 88 مقعدا، فزادت قوتها أربعة أضعاف، مع أنها لم تخوض المعركة إلا في 160 دائرة انتخابية من أصل 444 دائرة، في نفس الوقت الذي تجتاح الجماعة حملة اعتقالات جماعية شرسة طالت 600 عنصر من قياديها أعضائها دفعة واحدة. ثم حصل ما نعرف عن الربيع العربي وكيف حاولوا الاستفادة ليقفزوا إلى الحكم ثم يلتهمهم العسكر من جديد فيصبحوا نزلاء عنابر السجون.
والظاهرة الإسلامية موضع قلق من الغرب، بدءً من اجتياح حركة (طيب أردوغان) في تركيا، التي نالت في انتخابات عام 2007م 46% من الأصوات، بحيث تستطيع ولوحدها أن تشكل الحكومة، بدون الاستعانة بأحزاب أخرى، وانتهاء بجماعة بنكيران والإصلاح والتجديد في المغرب التي حصدت نفس النتيجة.
وقصة الصدام المسلح في سوريا غنية عن التعريف.
وهيمنة جماعة الغنوشي في تونس معروفة، وكيف شاركت في الحكم بعد الربيع العربية وحتى كتابة هذه الأسطر ليس من ملامح مذبحة جديدة لهم. وامتداد حركة المجتمع المدني للسلم في الجزائر، أو البرلمان الكويتي وتطورات البحرين فضلا عن اليمن كلها مؤشرات لطوفان التيار الإسلامي..
وحركة (حماس) حاليا هي امتداد غير مباشر لهم، و(أبو ليلى) الصيدلي والطبيب (الرنتيسي) كانا من تأثر بفكر الإخوان في مصر، وأسسا عام 1987م سوية الجناح العسكري لحركتهم حماس.
والمهم حسب تقرير مجلة (الشبيجل) أن أي دارس للتاريخ، لا يستطيع تجاهل أثر هذا الرجل الذي يشبه المسيح من جانب، أنه اختفى مبكرا من مسرح الأحداث، قبل تمام عمله، وهو أمر لا يقر به لا أتباعه ولا أتباع المسيح؛ فالمسيح عليه السلام يبدو أنه اختفى في عمر الثلاثينات، والبنا قتل في وضح النهار في الأربعينات من عمره. في 12 فبراير 1949م بعد مصرع النقراشي رئيس الوزراء المصري على يد الإخوان بقليل..
ولو بقي عمل البنا تربويا اجتماعيا، كما روى لي (فتحي رضوان) لترك أثرا أعظم وأبرك، كما فعلت جماعة الدعوة والتبليغ في الهند، ولكن الفخ السياسي كان أعظم.
وأخطر شيء دفع الجماعة إلى حافة الانتحار كانت خطوة تبني (العنف) وسيلة للتغيير الاجتماعي، فقضت على الجماعة ومؤسسها.
وظهر هذا واضحا في كتابات سيد قطب عن المواجهة المادية، فالجاهلية حسب وجهة نظره، لها جناحان من فكر وقوة مادية، فيكون غباءً وقلة حنكة، أن تواجه القاعدة الإسلامية الجاهلية بالفكر بدون القوة المادية من سلاح وعتاد.. حتى تكون المواجهة صحيحة، والنتيجة مضمونة، ولذا طرح (قطب) مفهوم القاعدة الصلبة الواعية التي نسمعها في كل العالم اليوم (القاعدة)!
ومن أجل سد هذه الثغرة المادية؛ فقد أسس البنا (التنظيم الخاص) وهو تنظيم مسلح سري، بقيادة شاب متهور (السندي)، ولكن الحصان العسكري جموح، وقصة الترابي في السودان شبيهة بهذا، بعد أن رماه الحصان العسكري الجموح من ظهره فوقع وترضرض، ولولا الجو القبلي العائلي في السودان لطار رأسه؛ فكان محظوظا. أخيرا رجع إلى الترابي إلى التراب.
انخرطت الجماعة في أعمال مسلحة ضد الإنجليز، ثم في الحملة إلى فلسطين، والنتيجة معروفة؛ فمن أخذ السيف بالسيف يهلك، وهكذا بدأ الصدام مع عبد الناصر في مسرحية اغتياله في حادثة المنشية.
وعن هذه الظروف كتب العشماوي (الإخوان والثورة) يحكي الفصول الخفية للصراع، وأشار إلى مسألة العصيان المدني، التي كان يمكن أن تقوض النظام الديكتاتوري الوليد، ولكن عقدة العنف أضاعت كل شيء. كما أضاعت ثمارا يانعة في أمكنة شتى، ومكنت للحكم العسكري أكثر، وكانت خلف الارتطام ببرجي نيويورك في النهاية.
وحاليا تطور الإخوان، ويتحدثون عن الديموقراطية والتعددية، ولكن مالم تصلح بنية الفكر عندهم على نحو جذري؛ فلن تزيد الأمور إلى سوءً، ولو صار الأمر إليهم فيجب على المرء حزم حقائبه، فكلا من البعث والإخوان وجهان لعملة واحدة.
وهذه البنية يشترك فيها الأخوان وحزب التحرير والفكر الإسلامي والقومي والبعثي والشيوعي والناصري والعلماني عموما، وهي ظاهرة (حزبية) وضعتها أنا تحت منظار السبر والتشريح النقدي في كتابي (في النقد الذاتي) لمن أحب الاطلاع.
ومن وصف هذه الظاهرة بالصحوة فهو واهم، لأننا مقبلون على فترة لن تكون صحوة بل غيبوبة، والفكر الإسلامي حتى اليوم مفصول عن المعاصرة، وما زال يعيش في رحم الآباء.
والقرآن نصحنا أن نتخلى عن فكر الآباء؛ فقال وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا إنا وجدنا آباءنا على امة؟؟
أولو كان آباؤهم لايعقلون شيئاً ولا يهتدون..
وهذا هو سبب تعضل ولادة الجنين الإسلامي، فهو مثل السيدة التي تعاني من الإجهاضات المتكررة، فتطرح كل حين بعد كل حمل، ولم يولد جنين مكتمل حتى هذه الأيام..
ومن يزور مدينة المحمودية حيث ولد البنا قبل أكثر من قرن ، يصادف بقايا بيوت مهدمة قديمة، وفي مقبرة (البساتين) يطالع قبرا لا يختلف كثيرا عن القبور المجاورة باستثناء عبارة كتب عليها: هنا مثوى الشهيد حسن البنا! فسبحان الذي قهر عباده بالموت..وكل من عليها فان القاتل والمقتول . ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام..
ومن هذه التجربة الخصبة كتبت كتابي (النقد الذاتي ـ ضرورة النقد الذاتي للحركات الإسلامية)، حتى أن البعض ممن يقرأ مقالاتي خاصة تلك التي نشرتها في موقع إيلاف كان يهاجمني بضراوة أنني إخواني (كذا؟) غافلا عن الصيرورة الإنسانية، وكيف يتطور الإنسان؟ فأنا رجل مر في مراحل شتى في رحلة تطوره، كما يمر الطفل أطوارا لينضج ويصبح كهلا سويا، بعد أن كان رضيعا لا يعرف كيف ينظف نفسه، وكذلك الحال مع تطور الإنسان وتقلبه بين المراحل. رحلتي مع الإخوان لم تدم طويلا فكل حزب يهمه اصطياد الأتباع أكثر من الترحيب بالناقدين والمراجعين، فهذا هو عموما تركيب الأحزاب خاصة الإيديولوجية منها فودعتهم بسرعة راحلا إلى محطات فكرية جديدة، في رحلة صيرورة لم تتوقف عن التدفق والتشكل حتى اليوم مع كتابتي هذه الأسطر عنهم.
في القرآن آية جميلة في سورة الروم عن هذا التحول (الآية 54): (الله الذي خلقكم من ضعف، ثم جعل من بعد ضعف قوة، ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير). وممن كان حريصا على مهاجمتي رجل من منطقة القامشلي بشكل خاص قد كرس نفسه للأذية وهي متوقعة (لا يستبعد أن يكون من شبيحة الجيش الإلكتروني الأسدي)، من مدينتي التي ولدت فيها في الزاوية الشمالية الشرقية من سوريا، وقد تكون في المستقبل في بطن الدولة الكردية المستقبلية، فبعد كردستان العراق ستولد دولة كردية تمتد في أحشاء اربعة دول تجمع تركيا وإيران وسوريا والعراق، كما حصل مع انفطار دولة السودان إلى شمال وجنوب، وحاليا يتقاتل الجنوبيون بين بعضهم بعضا بأكثر من قتال الشمال قبل التصدع والانفلاق الأعظم على عهد البشير المطلوب من محكمة العدل الدولية، وهذا يقول أن التمزق حين يبدأ فهو مثل الانشطار الذري لا يبق ولا يذر، إلى حين ولادة الوعي الإنساني، الذي يجمع ولا يفرق كما في كندا، مقابل التشظي في يوغسلافيا، وربما ستلحقها سوريا ومنطقة الشرق الأوسط في فتات هائل وتشظي لوح زجاج ضرب بحجر.
منذ تعرفي على الإخوان وفي اللحظات الأولى أدركت
أنهم لا يملكون فكرا منهجيا استراتيجيا واضحا، وهو امر لا أظنه تغير في جوهره.
يجتمع الشباب على حفظ بضع آيات من القرآن الكريم، وحديث نبوي، واستعراض فكري لبعض
من مفكريهم النادرين، وربما قرأوا فيما ترك لهم الشيخ (حسن البنا) وهو لا يشكل
زادا منهجيا، ورؤية استراتيجية، وهو معذور نوعا ما بسبب عدم نضجه؛ فالرجل كان
شخصية كارزمائية تنظيمية، وخطيب مفوه، ولكنه ليس بذلك العمق الفكري، وفهم العالم،
وأين وصلت الأمور؟ ولكم تمنيت لو أن نشاطه التحم مع فكر أخيه (جمال البنا) فالأخير
قطع اشواطا هامة للوصول إلى الفكر العالمي. ولقد كان لي شرف تقديم الكتاب بقلمه
الذي كتبته مع جودت سعيد وهشام علي حافظ رحمه الله (فقد المناعة ضد الاستبداد =
الأيدز السياسي).
ولذا فقد قام سيد قطب رحمه الله في سد هذه الثغرة في كتاباته، وليته لم يفعل (تامل كتابه عن السلام العالمي، وأين وصل في كتابه (معالم على الطريق) لأنه فكر منغلق غير متصل بالفكر العالمي وتطورات الفلسفة الإنسانية. (من أقواله ليس ثمة حضارة على وجه الأرض غير الحضارة الإسلامية؟).
والخطير هي ربط هذه المفاهيم مع القرآن؛ فأخذت طابع القدسية التي لا تناقش؛ فهي في (ظلال القرآن) وهل يمكن لأحد مغادرة هذه الظلال إلى الجاهلية والحرور؟ أكملتها حفلة إعدامه (وكانت غلطة من عبد الناصر) فأخذ اسم الشهيد، وهل يخطيء الشهيد؟ فخدمه عبد الناصر من حيث أراد إعدام أفكاره، فراجت كتبه أكثر، وتعممت مفاهيمه وتعمقت بأشد من النار في غابة جافة، في فصل صيف قائظ تضربها رياح مجنونة، فلم يبق بيت إلا وعنده تفسير الظلال؟ حتى وصلت مفاهيمه (تورابورا) في مفهوم القاعدة الصلبة الواعية التي حملها الظواهري الى هناك، حتى كملت رحلتها بالارتطام ببرجي نيويورك وانهدام العالم، وما يحدث في مذابح الشرق الأوسط الحالية فصل متواضع من كتاب المعالم.
وحسب معرفتي فلم يستنفر أحد أو (لجنة) لوضع أفكاره
على محك الدراسة المعمقة، مع التعليقات الذكية المنهجية لتصحيح مسار الفكر
الإسلامي الراهن، كما يحصل حاليا مع كتاب (كفاحي لهتلر) الذي ينشر بعد تسعين
سنة من تأليف صاحبه في السجن (أدولف
هتلر)(1924 ـ 1925م)، وسبعين سنة من تجريمه وتحريم طباعته بعد سقوط الرايخ الثالث
مع هزيمة ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية في عام 1945م. ويظهر الكتاب
حاليا بنسخة من (1948) صفحة مع (3500)
تعليق هام وذكي على الكتاب؟ (راجع مجلة در شبيجل الألمانية ـ العدد 2 /تاريخ 9/01
/ 2016م الصفحة 106).
مشكلة الإخوان المسلمين في مفهوم الجهاد كان غامضا
ومازال، وإن كانوا بدأوا يدركون مخاطر العنف؛ فلم يلجأوا إليه حتى اليوم في
اعتراضاتهم على الانقلاب العسكري في مصر،وهو أمر يجب الاعتراف لهم به، على الرغم
من سحق اعتراضهم في ساحة رابعة بالدم والجرافات، ولكنهم لم يطلقوا العنان لاتباعهم
لاستخدام القوة المسلحة، في مواجهة الجيش المصري، نقول حتى الآن ولا نعرف إلى أين
ستصل الأمور؟ وهل سيبقون منضبطين وبرؤية استراتيجية؛ فلا يقعوا فيما وقعت فيه
مجموعات سيناء المسلحة؟.
في قناعتي ان تنظيم الإخوان شجرة هائلة لا يمكن
اقتلاعها، وكل عملية اضطهاد وسجن واعتقال وشنق، لن يكون لها سوى أثر تقليم الأشجار
فتزداد نموا ومناعة ضد الزوال؛ فهم قوم اعتادوا امتصاص الصدمات، مثل الشعب
الفلسطيني في مواجهة الصهاينة وآلتهم العسكرية التي تذكر بصراع داوود وجالوت؟.
خذو نموذج الحسين والشيعة، والمسيحيين وحمل عيسى
الصليب إلى جبل الجلجثة. حتى اليوم ينادي الشيعة يالثارات الحسين، والحسين قد مات
قبل آلاف السنين، ومازال المسيحيون يصلبون بأيديهم على صدورهم ويقبلون الصليب مع
أنه أداة القتل! وكل مشانق تعلق وسجون تفتح يدفع الإخوان وكثير من الناس للتعاطف
معهم واعتبارهم الحسين الجديد.
وهذا يقول أن العقل الإنساني شديد التعقيد صعب
الفهم وأن العقائد تبنى عبرالتاريخ بكثير من الأساطير، وحين تتشكل في التاريخ
تترسخ فلايمكن اقتلاعها بالسخرية منها أو اضطهاد أتباعها، وكذلك هو الحال مع شجرة
الإخوان المسليمن في مصر الذين أصبحوا شجرة باسقة هائلة تذكر بإهرامات مصر التي
عجز عن قلعها وهدمها كل من غزا مصر. (محاولات المأمون على ماذكرها ابن خلدون!) لذا
وجب التعامل معهم كحقيقة اجتماعية.
وفي قناعتي العميقة أن الإخوان أصبحوا قطعة من
النسيج الاجتماعي، ولكن المشكلة كما أسميها أنا (الكود الوراثي) عند الإخوان
المسلمين، فمازال عندهم ذلك الحنين العميق إلى فكرة (الخلافة الإسلامية) التي
أسميها أنا (الخرافة) الإسلامية، و(التفرد) في الحكم طالما كانوا هم الممثل الشرعي
الوحيد لله، فكما نسب حزب الله اللبناني نفسه إلى الله؛ أنه الممثل الشرعي الوحيد
لله على الأرض، وأن تحرير القدس يمر من الزبداني؛ فعلينا الانتظار طويلا لحين عودة
الوعي من المنفى.
اعتقد أننا مازلنا في أول الطريق ـ هذا إن كنا
سلكناه ـ لبناء دول عصرية تقوم على العدالة أكثر من الشعارات؛ فيكسب القاموس كلمة،
ويخسر الواقع حقيقة، على حد تعبير النيهوم الليبي.
تغيير (الكود الوراثي
DNA) عند إخوان مصر خاصة يعني البدء بترشيد مفاهيم اتباعهم؛ بمعنى تغير
العالم، والفلسفة العالمية، والانفتاح على الثقافات، والاعتراف بأننا توقفنا في
الإنتاج المعرفي منذ أيام ابن خلدون، وأننا نعيش عصر كافور الإخشيدي، وعلينا
التعلم بتواضع وتلمذة لما أضيف من معرفة إنسانية عبر القرون، وأن نودع الفقه
التقليدي لبناء فقه معاصر، وإدراك تطور الأنظمة، وفكرة السلام العالمي، ووضع فهم
تأسيسي لمعنى الجهاد أنه ليس للفتوحات والغزو، بل المشاركة في مجلس عالمي لرفع
الظلم عن الإنسان اينما كان ومهما دان، واعتماد روح المشاركة وعدم التفرد بالحكم،
ووضع مناهج دينية جديدة لفهم القرآن، وغربلة الحديث من خرافات خطيرة تمتهن المرأة
وتعتمد الأسطوري الخلاب (مثل حديث: يقطع
الصلاة ثلاث الحمار والمرأة والكلب الأسود؟ وحين يسال الصحابي لماذا الكلب الأسود
تحديدا ـ عفوا زيادة في العنصرية؟ يقول لأنه شيطان! فالكلاب السود نعرف منذ ذلك
اليوم أنها شياطين؟)، وتنقية السيرة من روحها المسربلة بالغزوات والمعجزات، لتأخذ
الشكل الإنساني الذي أطلقه ابن خلدون، بعد قرون من انبثاق الإسلام، أن نفهم
الواقعات من خلال التمحيص، ومقارنة الذاهب بالحاضرن والأحوال في الاجتماع
الإنساني، وقواعد السياسة وطبيعة العمران، وأصول العادة، وإلا دخلنا المتاهة كما
حصل مع كثير من أئمة النقل والتفسير على حد تعبير ابن خلدون.
حين كتبت كتابي (في النقد الذاتي) لم ينتبه له لا
الإخوان ـ فضلا عن محاربته والتحريم على الأتباع بالاطلاع عليه ـ كما لم تستفد منه
انظمة العالم العربي، في تأسيس مفهوم اللاعنف في الصراع السياسي. إذا لوفر دماء
كثيرة تسيح في الأرض السورية، حيث نشرت كتابي بدون فائدة.
وهذا يخضع لقانون أن الافكار مثل الماء تنحبس في
مناطق صخرية صلبة، لتنبجس ينايبع في أرض تستقبلها، وهوماحصل لكتابي (النقد
الذاتي)؛ فالوحيدون الذين استفادوا منه ودرّسوه لأتباعهم هم جماعة (بنكيران) في
المغرب فنجوا من المذابح والانقلابات والتنطع الفكري السلفي أو الانغلاقي الإخواني
المنقطع عن صيروة التاريخ.
أمام الإخوان مع وجودهم خلف القضبان مراجعة قاسية
لتجربتهم وفكرهم، وهل ثمة خطأ أوهو محنة في سبيل الله؟ فهذا هو المفصل الأول؛ فإن
اعتبروه محنة تابعوا طريقهم بدون تغيير يذكر فنطحوا الصخرة مجددا، وإن اعتبروه أنه خطأ استراتيجي رجعوا إلى
أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون، ذلك أن الأحداث يساهم فيها طرفان، وخير مايفعل
المرء في المواجهات الصعبة مراجعة نفسه،
حيث حقل التغيير في النفوس، فيدخل على برامجه للتعديل والإلغاء والإضافة والحذف،
أما الخصم فهو عصي لا سيطرة عليه إلا من عند أنفسنا وهو أمر يغفل عنه معظم الناس
فينطحوا الجدار فيسيل الدم.
عليهم أن يفهموا اساليب الحكم بالمشاركة. عليهم أن
يقطعوا مع فكرة الجهاد والقتال، واعتماد أسلوب اللاعنف في التغيير السياسي.
عليهم وهو الأهم الانفتاح على الثقافات العالمية، وصيرورة التاريخ، وكيف ولدت الديموقراطية الحديثة، وحقوق الشعوب، والسلام العالمي، والمنظمات الدولية، وقانون الحقوق الإنساني، وتعليم الشباب إتقان اللغات العالمية، والقراءة بنهم من معين كل الثقافات من الصين إلى بتاجونيا ومن سخالين إلى فانكوفر.
بقلم خالص جلبي(بتصرف يسير)
إرسال تعليق