إن
فهم وتحليل ظاهرة "الصراع" في علاقات المغربية الخارجية اقتضت من الباحث
الإجابة عن التساؤل المركزي التالي: ما الذي يدفع الجماعات البشرية إلى الصراع
والحرب؟. وهل ينسجم تناول ظاهرة " الصراع"، كما هو معبر عنها في
التقاليد الغربية ذي المرجعية التطبيعية تنظيرا وممارسة. أم أن الأمر يقتضي
الاستعانة بنموذج أو نماذج تفسيرية تنسجم مع الأصول الحضارية والتاريخية لهذا
البلد؟. على اعتبار أن اختلاف الرؤى للعالم، ومن ثم اختلاف الافتراضات الكامنة حول
ظاهرة ما يقود بالضرورة إلـى اختلاف المنهاجيات.
و بالنظر إلى الخلفية الإدراكية للمغرب،
وانتمائه الحضاري لأمة الإسلام المجتمعية، انتهيت إلى أنه لا يمكن فهم ظاهرة الصراع إلا
داخل حقل مفاهيمي يتماها مع هذه المنظومة المعرفية. أطلقت عليها أطروحة
"التدافع"، والتي تؤمن بأن" منطق التعايش كما تعبر عنه هذه
اللحمة الإدراكية، هو الذي من جهة، يحكم بالأساس علاقات الناس في الجماعة
المجتمعية، وهو من جهة أخرى يذود عن هذه الجماعة عبر تدافع الجماعات المختلفة
ليحول دون سيادة منطق/قيم الإقصاء والنفي لجماعة طاغية ضد غيرها من الجماعات (لولا
دفاع الله الناس بعضهم لبعض لفسدت الأرض). فليس التدافع إلا إعادة للتوازن
والاستقرار لمنظومة العلاقات/ القيم العامة بين الجماعات البشرية".
ومن ثم، فإن ما يحكم طبيعة هذه العلاقات في زمن النزاعات هو
"التدافع". فعندما تسيطر قوى الطغيان أو القهر على باقي القيم داخل
الأمة المجتمعية المغربية أو مع غيرها من الأمم الأخرى، تتدافع هذه الأمة لإعادة
التوازن والاستقرار لمنظومة هذه العلاقات، ثم تختل هذه المنظومة ليعاد ترميمها
أوبناؤها. فتتولد بذلك حالة التدافع المستمرة بين هذه الوحدات السياسية داخليا
وخارجيا.
وقد كان لزاما
علي عبر ذلك النظر التأملي التوقف عند محطتين: تتعلق الأولى بالقضايا المرتبطة بما
قبل المنهج وصولا إلى النموذج التفسيري المنشود. والثانية معنية، بالتوفيق بين هذا
النموذج المنشود وبين نوعية البحث التفسيري-النقدي المعتمد في هذه الدراسة. المتميز بالخصائص التالية:
-
هدفه العام: التأمل والتنظير؛
-
الانطلاق من مقولات معيارية-فلسفية أو عقدية-قيمية أو
علمية- عملية؛
-
وحدته الدراسية: القيم والأفكار؛
-
مجال اهتمامه: دراسة التأثر والتأثير بين القيم والواقع.
إن نوع
البحث وكذا أطروحته، قادتني إلى تبني منهاجية( تضم المنهج في بعديه الإجرائي
والمعرفي، وكذا المقتربات) ذات مقترب قيمي في التحليل يستمد جذوره ونهاياته من
المنظور الذي أسس له أستاذي المفكر د. سعيد الحسن المسمى "المنهج
التصارطي"، باعتباره المنهج الذي يسم حركة الإنسان نحو المستقبل تزكيةً
لواقعه بالاستهداء بمدركاته المحكومة بدورها بمدركاته الجماعية.
فضلا عن ذلك، وضفت كلا من المنهج والتحليل المقارنين والمنهج التاريخي. إذ
تمثل الهدف من الاستعانة بالمنهج الأول فهم تصور مختلف المدارس والتيارات الفكرية
والمذهبية "الغربية" التي نظرت وأرخت لظاهرة "الصراع" بين
الجماعات البشرية، ومن ثم، الوقوف على خصائص هذه الرؤية.
ومن جهة أخرى، رصد عناصر الالتقاء والاختلاف في سمات النشأة والتحول التي
طرأت على الدِول التي قامت بالمغرب الأقصى، ومحاولة الوقوف عند مكامن التقارب
والتباعد في مظاهر تمثل القادة، وقبلهم أهل الحل والعقد والفقهاء، المغاربة لسنة
"التدافع" بين الوحدات السياسية التي حكمت بلاد المغرب الأقصى خلال
الفترة المشمولة بالدراسة.
في حين تم توظيف المنهج التاريخي على
مستويين؛ المستوى الأول إجرائي، وذلك من خلال الاستعانة بنتائج المؤرخين وخلاصاتهم،
بعد القيام بعملية نقد داخلية وخارجية لهاته النتائج، بغرض فهم وتفسير بعض الأحداث
واوقائع. أما المستوى الثاني فمعرفي(فلسفة التاريخ)؛ عبر تبني رؤية للتاريخ مفارقة
للطرح الذائع في المرجعيات التطبيعية، والتي تقصي أو تتجاهل بعدي المرجعية
والغائية، كما تلغي هذه الرؤية إرادة الإنسان في تغيير وتزكية واقعه( عالم
الشهود).
وقد أسعفني هذا المنهج في تتبع تطور فكرة
التدافع بعد تشكل الأمة المجتمعية في بلاد المغرب الأقصى وما رافقها من مخاض
النشأة (مع المرابطين) والتحول (مع المرينيين) والمآل (مع العلويين) إن بين
وحداتها السياسية المتعاقبة مطاولة أو مناجزة أو من خلال تحليل أبرز المحطات
الصدامية (الزلاقة، الأرك، العقاب، وادي المخازن...) التي وسمت التاريخ المغربي.
فضلا عن معرفة تموقع المغرب من الأزمات الدولية والإقليمية التي عايشها.
وهكذا، قسمت البحث إلى قسمين؛ حيث خصصت القسم الأول لدراسة ظاهرة الصراع
الدولي، بدءا من تناول التيارات التي
تعرضت له، مرورا بنقد جذورها المعرفية ذات المرجعية التطبيعية، وصولا عند نتائج
هذه المقاربة وتجلياتها في الساحة الإنسانية. ثم التوقف، بعد ذلك، عند مدخل
"التدافع" باعتباره نموذج تفسيري لهذه الظاهرة وفق المرجعية التزيهية.
مبرزا أسسه ومنطلقاته، موضحا أسلوبه وغاياته.
أما القسم الثاني، فاعتبر بمثابة اختبار لمصداقية هذا النموذج
التفسيري.ونقدا لمقولاته انطلاقا من الواقع السياسي والتاريخي الذي عاشته الأمة
المجتعية في بلاد المغرب الأقصى. إن من حيث تمثل هذه الوحدة السياسية لقيم
المرجعية التنزيهية ومدى تمثلها موضوعيا في هذا الواقع نظما وممارسات. وفي خاتمة
هذا البحث، سأعلن إمكانية تعميم أطروحة هذا النموذج على الأمم المجتمعية المماثلة
من عدمها.
وقد خلصت الدراسة في القسم الأول إلى أن تحليل الصراع
وفق الرؤية الغربية التطبيعية تتجاذبه أطروحتان هما أطروحة البقاء وتتزعمها كل من
المدرسة الواقعية والمدرسة الماركسية. ثم نظرية الرخاء ممثلة في المدرسة الليبرالية
والمدرسة البنيوية. وأن كلا الأطروحتين تستندان على خلفية إدراكية متحيزة إلى
مرجعيتها ومنظومة قيمها. ومن ثم، عملت الدراسة على تقديم رؤيتها الخاصة لحالة الصراع
والحرب الذي تنشأ بين الوحدات السياسية عبر أطروحة " التدافع".
وإذا كان البحث التفسيري ينطلق من مقولات معيارية
فلسفية أو معرفية- قيمية أو علمية- عملية؛ فإن الباحث في هذه الدراسة قد تبنى
منهجية نقدية-نقضية للأصول المذهبية والفلسفية التي تقف خلف الأطروحات النظرية
الغربية التي عالجت موضوع "الصراع في العلاقات الدولية". إذ عرض رؤية
مغايرة لها تنطلق من مرجعية تنزيهية توحيدية.
ولأن
الوحدة الدراسية الأساس للبحث التفسيري هي القيم والأفكار، فإنه يغلب التحليل الكيفي استقراءا
واستدلالا. وقد تجلى هذا من خلال تبني
البحث التفسيري لمنظور قائم على نموذج معرفي يعكس المدركات الجماعية التي ينتمي
إليها الباحث: من مثل مفهوم "القيم" ومفهوم "التدافع" ومفهوم
"التصارط"...من غير وثوقية أو دغمائية بل تحيزا واعيا للحق، كما يفهمه،
في تبني رؤية معرفية تعبر عن تلك المدركات.
وفيما يخص مجال اهتمام البحث التفسيري-النقدي
بدراسة التأثر والتأثير بين القيم والواقع، فقد قامت الدراسة برصد أعمال عدد من أهم المنظرين
الغربيين في حق العلاقات الدولية وتوضيح موقفهم ورؤيتهم من ظاهرة
"الصراع" الدولي. وفي خضم تلك الدراسة برز التساؤل عمن يقود الآخر: هل
الواقع يعد مصدر إلهام لأعمال المنظرين في الفكر السياسي الغربي في حقل العلاقات
الدولية ؟ أم أن هذه التنظيرات هي من تشكل الواقع وتوجهه؟ وقد تبين وجود مؤسسين،
وآخرين مجددين بينهم عديد من السمات
المشتركة إن في أطروحاتهم أو منهاجية تأليفهم؛ وتتمثل في كونهم ألفوا أعمالا اتسمت بالتشاؤم تارة -تيوسيديد،
هوبز، ميكيافيلي..- والتفاؤل -القديس أوغستين، توما الأكويني، كانط..- تارة أخرى
حيال الطبيعة البشرية. ورفضوا حينا أي مبرر أخلاقي أو معياري لقيام الحروب والعنف
بين الجماعات البشرية وأيدوا أحيانا هذا التبرير بعدما عايشوا أو عاصروا حروبا
مدمرة أو فترات تحول عميقة.
وقد كشفت طروحات كل من نظريتي البقاء والرخاء التي صبغت
التحليل الغربي لمفهوم "الصراع"
من جهة، ومسار تاريخ الجماعات السياسية فيه من جهة ثانية، استنتاجا مفاده
أن الخلفية الإدراكية لتلك الطروحات بمرجعيتها التطبيعية وسيولة غائيتها إنما تعلي
وتبرر منطق استعلاء منظومة قيم الطغيان على منظومة قيم العدل.
إن التأطير المعرفي لحقل العلاقات والنظام الدوليين وفق
هذه الخلفية التطبيعية محكوم بعقلية إجرائية لا بعقلية قيمية. وهو ما
يفسر لما كانت الطبيعة/المادة هي مصدر القيم عندهم، ثم صار الإنسان بعدها هو مصدر تلك القيم، ما أدى
في النهاية إلى تشييئ الإنسان.
هذا الاستنتاج هو ما جعل الدراسة تتبنى النموذج التفسيري
القائم على خلفية إدراكية بمرجعية تنزيهية وغائية رسالية، وهو تبن يستند بطبيعة
الحال على عقلية قيمية في تحليل العلاقات التي تحكم أمته المجتمعية التي ينتمي
إليها الباحث، كما تحكم علاقاتها بغيرها من الوحدات السياسية.
إن التدافع كنموذج تفسيري، يعني حالة المواجهة المستمرة
بين منظومتي قيم العمران وقوى الطغيان، التي تسم حركة الإنسان في التاريخ. بما، يضمن
حيوية وتجديد الحياة البشرية- الفاعلية الإحيائية- وتحقيق عملية الابتلاء والفرز
الحضاري للأمم، عبر ما يفرضه تعدد المرجعيات وتعارض الرغبات والمصالح وتفاوت النعم
والقدرات من تنافس وتزاحم ومغالبة من أجل؛ الهيمنة واستمرارية الحضور مرة. ومن أجل
الانفكاك من قيود الاستضعاف مرة أخرى.
ولذلك، فهو نموذج يتسم بواقعيته التي تجمع بين التمثليين
القيمي والموضوعي في مواجهة تحديات حركة الابتلاء والتداول الملازمتين لحركة
الحياة. بما يحول دون سيادة منطق الإقصاء والنفي لجماعة طاغية ضد غيرها من الجماعات،
وبما يؤدي إلى إعادة التوازن والاستقرار لمنظومة العلاقات العامة بين الجماعات
البشرية. أما القتال وفق هذا النموذج فلا يعد أن يكون فريضة وروح كفاحية متحفزة
لمقاومة الطغيان، لا لممارسته.
وهكذا خلصت عبر أطروحة التدافع إلى أن منطق التعايش كما
تعبر عنه هذه اللحمة الإدراكية، هو الذي من جهة، يحكم بالأساس علاقات الناس في
الجماعة المجتمعية، وهو من جهة أخرى يذود عن هذه الجماعة عبر تدافع الجماعات
المختلفة ليحول دون سيادة منطق الإقصاء والنفي لجماعة طاغية ضد غيرها من الجماعات.
فليس التدافع إلا إعادة للتوازن والاستقرار لمنظومة العلاقات العامة بين الجماعات
البشرية. وما ابتعاث الرسل إلا حتمية
لتحقيق توازن القيم في الحياة البشرية، كلما اختلت، من خلال إقامة حركة العمران
البشري وفق آلية التدافع.
وقد بينت الأطروحة في قسمها الثاني، من خلال دراسة تاريخ
المغرب الأقصى وحضارته خلال الفترة الممتدة بين طوري الامتداد وطوري الانكفاء،
حضور سمة التدافع في تاريخ هذه الأمة المجتمعية. فمن جهة، ثمة حركة تغير مستمرة في
الداخل لحمل الكافة على مقتضى الشرع أو الملك.
أما خارجيا، في مواجهة باقي الأمم الملية أو المجتمعية المجاورة لها، فكان تدافعا
مستمرا إما نصرة لمظلوم أو دفعا لعدوان أو فتحا لبلدان.
إذ كان التدافع
الداخلي خلال هذه الفترة يدور بين نمطين من الدول، أما إحداهما فدعوية/ممتدة
قامت(المرابطين والموحدين ثم العلويين عند نشأتهم) على دعوة دينية مستندة على
عصبية قبلية أو نسب شريف. وأخرى رعوية/منكفئة قامت (المرينيين والوطاسيين
والسعديين باستثناء الحقبة المنصورية) على عصبية بدون دعوة دينية أو دعوة دون
عصبية. وأصبح ينظر لكل صاحب دعوة على أنه يتطلع إلى الاستقلال والتميز المذهبي
والسياسي عن الخلافة في المشرق. ولأن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل أن
تستحكم فيها دولة، حسب القانون الخلدوني، فإن الدولة المستجدة إنما كانت تستولي
على الدولة المستقرة بالمطاولة لا بالمناجزة.
أما خارجيا، وعلى الرغم من أن الوحدات السياسية قد تنهار
إلا أن الوحدة الحضارية تبقى ثابتة، وبغض النظر عمن يحكم، فإن التدافع لم ينفك أن
توقف إما جهادا لنصرة مظلوم(الجواز إلى الأندلس) أو لدفع عدوان (الايبيريين
والعثمانيين، ثم الفرنج)، أو فتحا لبلاد أخرى( نحو الجنوب).
وكان هذا التدافع الخارجي هو ما يكسب الدولة المستجدة
المصداقية والشرعية (الملتزمة بالشريعة) لدى العامة والخاصة. من جهة ثانية، كانت
الدولة المستجدة مدفوعة إلى الغزو لأنه متى توقف المد التوسعي نقصت موارد الدولة،
وبالتالي فرض مزيد من الإتاوات على الرعية.
وبين سنة التمكين
للدولة المستجدة صاحبة الشوكة وسنة التداول والتغيير الذي يطال الدولة
الآفلة أجيال وحقب من التدافع المستمر،
والذي اتخذ أشكالا عدة تتلخص في عدم القدرة في كثير من المواقف على الجمع بين التمثل
القيمي لمدركات الجماعة السياسية في المغرب الأقصى وبين التمثل الموضوعي عند قادة
هذه الأمة المجتمعية إن في الداخل أو في علاقاتها الخارجية.
والنتيجة أنه، إذا كانت الوحدة السياسية تسعى إلى غايات
مادية فحسب (دولة الإدارة)، فإنها لا تندفع إلى التصادم مع الآخرين، في حين قد
تكون هي عرضة للاعتداء من طرف الآخرين. وتنتهي إما للرد أو تقوية مناعتها ضد
الآخرين وتحاشي وقوع ذلك مستقبلا.
وإذا كانت
الوحدة السياسية تسعى إلى تحقيق غايات معنوية(دولة الرفاه) بعد أن تحققت غاياتها
المادية، فإنها تكون أكثر الوحدات عنفا واصطداما مع الآخرين. أما إذا كانت الوحدة
الجامعة تسعى إلى تحقيق غايات روحية فحسب (دولة الرسالة مثلا) فإنها تكون أكثر
الوحدات استعدادا لإطالة أمد الاستقرار والسلم.
د. هشام لحصيني، مفهوم الصراع في علاقات المغرب الخارجية: دراسة في التدافع بين طوري الامتداد والانفكاء، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام والعلوم السياسية، جامعة محمد الخامس الرباط، مارس 2017.
Lahsinim2m@gmail.com
إرسال تعليق