عالم متنوع، أم منقسم؟
درج المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية(ifri) نهاية كل سنة على إصدار تقريره السنوي( ramses)تحت اشراف كل منThierry de Montbriaeو Dominique David ليقدم وجهة نظر فرنسية حول الأحداث والقضايا والسياسات. وأكثر ما يتميز به التقرير السنوي، كونه يتجاوز الوصف وتحليل ما انقضى من أحداث وقضايا إلى استشراف المستقبل ووضع فرضيات حول مجمل القضايا والتحديات التي سيشهدها العالم.
وقد خلص تقرير السنة المنصرمة2019 أن العالم قد شهد ثلاث تحديات، وستبقى مطروحة على المديين المتوسط والبعيد، ويتعلق الأمر بتحدي الديموغرافي، وتحدي الصعود الصيني وتداعياته على النظام والعلاقات الدولية ثم تحدي المواجهة المتصاعدة بين إيران والمملكة العربية السعودية.
الديموغرافيا (Demography): الحاجة الملحة على المدى الطويل
إن التقدم نحو تسعة مليارات من البشر، وتآكل هرم الشيخوخة عند طرفي النقيض ـ المزيد من الشباب، وكبار السن في آن واحد.
إن العالم واحد في التمثيل (العولمة)، في الخرق (البشر الذين يبلغ تعدادهم تسعة مليارات)، وفي الأخلاق (المتطلبات الإنسانية)، ولكنه متنوع للغاية من حيث توزيع السكان والمشاكل التي يفرضها. ولا تظهر الاتجاهات الرئيسية (التحولات الديموغرافية، وتزايد التشريد، والتوسع الحضري، والشيخوخة، ومشاكل الغذاء، وما إلى ذلك) بشكل موحد في كل مكان. وفي مواجهة الإغراء السائد لعولمة كل شيء، من الضروري اللجوء، من أجل تحديد المشاكل الحقيقية، إلى التحليلات الإقليمية.
من المؤكد أنه بعد قمم الهجرة في تسعينيات القرن العشرين (البلقان) والفترة 2015-2016 (سوريا)، يتناقص تدفق بلدان الشمال إلى بلدان أوروبا. هل يعني هذا أن المشكلة تختفي؟ قطعًا لا. فأولا، لأن المجتمعات الأوروبية تعاني من الشيخوخة السكانية ــ ولأن المحنة التي يعيشها السكان الشباب من المرجح أن تنسحب أكثر من انفتاحه على قوة العمل الضرورية. وثانيا، لأن هذه المجتمعات ترى ما تعتقد أن هويتها موضع تساؤل بسبب العولمة التي تقدر التوحيد والاقتلاع.
إن الادارة الاقليمية ضرورية وحتمية لمنطقة أوروبية - أفريقية تواجه أكثر الخصائص عنفا للمشاكل الديموغرافية: زيادة كبيرة في عدد السكان، صعوبة في إدارة أعداد كبيرة من الشباب في المجتمعات الاقتصادية والسياسية التي لا تملك الوسائل للقيام بذلك؛ وهي عوامل من شأنها ان تفضي إلى شيخوخة مفاجئة في الاقتصادات غير المتقدمة.
الصين: قوة جديدة، عالم جديد أصبح الآن مكاناً مشتركاً:
لم يعد الغرب يحتكر السلطة ـ أو ربما القوة العالمية، إذا ما عرّفنا القوة والامكانيات الذاتية بالمقارنة مع غيرها من الدول، والقوة العالمية بوصفها القوة التي ينبغي أن تزن أبعد ما يمكن في العالم وعلى أكبر عدد ممكن من المسارح الاستراتيجية. وعلى المستوى الإقليمي، أكدت القوى نفسها بظهور اقتصادي، كما نجحت عملية إلغاء القيود التنظيمية الاستراتيجية التي نشأت بنهاية نظام الشرق والغرب.
وبعيداً عن هذه القوى الإقليمية: الصين. إن الصين ترمز إلى عالم جديد، لا يتحرك نحو نظام تعددي مستقر، بل نحو نظام هرمي جديد يقوم على ترتيب جديد للقوى.
وفي نفس المنطق، التأثير على تعريف المعايير الفنية وبالتالي، وعلى نطاق أوسع، أنظمة الحوكمة العالمية في العالم؛ وبشكل أكثر عموما، احتلال منافذ القوة الناعمة، من خلال اقتراح سياسة اجتماعية اقتصادية نموذجية للاستقرار، والقدرة على التنبؤ، والكفاءة الاقتصادية، والحفاظ العدواني على عدم التدخل. هل تعيد تشكيل العالم؟ إن بروز القوة الصينية المزعوم اليوم يحمل معنيين على الأقل. فمن ناحية، يظهر هذا التحول تحولاً حقيقياً ــ في العلاقات بين القوى الدولية.
إن الصين تعاني من نقاط ضعف هائلة، ولكن إنجازاتها وثقلها الموضوعي الذي يمنحها حجمها تعمل بالفعل على تغيير توازن العالم بشكل عميق. وتتناسب بكين مع هذه الأرصدة من خلال موازنة قوتها.
إيران/المملكة العربية السعودية:
لم تعد السيطرة ناجحة المواجهة التي تميز في أفضل الأحوال إيران/المملكة العربية السعودية نظاماً دولياً غير محكما يسمح للقوى الإقليمية بالظهور من دون دمجها في منطق مشترك. إن خطورتها تنبع من هذا الافتقار إلى منطق السيطرة، في إطار إقليمي أفضى لعقود من الزمان إلى هذه الحالة من السيولة .
لقد تعافت إيران من صراعها الرهيب مع العراق في غضون ما يقرب من ثلاثة عقود، بسرعة وبحذر نسبي. إن امتداد نفوذها إلى «خمس عواصم» (بغداد، بيروت، دمشق، صنعاء، بالإضافة إلى طهران) هو إلى حد كبير نتاج عمليات التمنيات الغربية. وبوسعنا أن ننظر إلى هذا باعتباره امتداداً "طبيعياً" للمحيط الواقي، في منطقة لم تكن قط صديقة له قط.
ومن "الصعب" في طهران، دعونا ننجذهم إلى أعمال عسكرية، نظراً لتمديد الوجود الإيراني، لم يكن بوسعها أن تسقط إيران، بل أشعلوا النار في المنطقة. فبعد مغامرات العقود الماضية، كان حلم القوى المهيمنة هو الانفصال عن الشرق الأوسط. ولكن من الصعب أن نرى كيف يمكن حل الازمة الراهنة بين دول الخليج دون تدخل دبلوماسي خارجي؛ والواقع أن إعادة الاستثمار الوحشية من جانب واشنطن في الأزمة النووية الإيرانية تؤدي إلى إغراق الولايات المتحدة في الاضطرابات التي تجتاح المنطقة، في موقف يبدو أن دونالد ترامب فقط هو الذي يجده إيجابيا. وإذا ما اقترن ذلك بالأزمات الحالية، فإن المشكلة الهيكلية المتمثلة في إعادة بناء دول المنطقة وإعادة بنائها وتحقيق الاستقرار فيها.
إرسال تعليق